لفت نظر

جمال الشناوي يكتب: «الدفاع  الإجباري.. واستهلاك الإنجاز»

الكاتب الصحفي جمال الشناوي
الكاتب الصحفي جمال الشناوي

بعض الكلمات نارًا تحرق أمم وشعوب .. وتبدل الكلمة  أحيانا مسار الحياة للفرد أو المجتمع 
مكتوبة كانت أو مسموعة .. تسرى الكلمة بين الناس ويتفاعلون معها حسب الأحلام او الأوهام .

 

فى السنوات الأخيرة من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحالى يبدو أن من يرسم خريطة العالم كان رجلًا رومانسيًا جدًا، لذا فهو رسم ثوراته بالألوان الزاهية وأطلق عليها أسماء الزهور .

 

ذلك الأب الروحي لنوع غير مألوف من الحروب الذاتية، سبقنا مسافات طويلة على مقياس التفكير، ويبدو أنه اكتشف أن حسم الصراع مع الاتحادالسوفيتي لن يكون بالصواريخ النووية، أو بالقاذفات ولا الأساطيل ، فاندلاع حرب عسكرية بمفهومها التقليدي، تعنى نهاية العالم، ولن يكون هناك منتصرا وسيصبح الجميع ضحايا ومهزومين .

 

تساقطت أوروبا الشرقية ظهير حلف وارسو القوي الواحدة تلو الأخرى كقطع الدومينو .. بفضل ثورات وغزوات على أجنحة الوجبات السريعة .. وسيل جارف من أدوات القوة الناعمة المبتكرة .. وسرعان ما تمددت الثورات الزاهية الوانها إلى موسكو  دره تاج  العدو التاريخي للغرب.


وسقطت موسكو أمام جحافل من القوى الناعمة، ورقصت الشعوب السوفيتية على انغام الموسيقى الغربية، وهى تهدم بلادها بفضل أنظمة حكم تجمدت وانعزلت عن مواطنيها.. ولم توفر لهم أيا من وسائل الدفاع الذاتي.. ورغم عراقة وثراء التراث السوفيتيفي الآداب والفنون ..إلا أن الجمود في نظام إدارة الدولة العظمى جعلها هشة في صد الهجمات ، وتخلفت عن تجهيز أساليب الدفاع المستقبلية .


الغريب والمثير أن تلك المعركة لم تتوقف وتكرر كل يوم، وإن اختلفت اشكالها وتجددت أدواتها، اعتمادا على إبهار المتلقي وإغراقه فيدوامة التجديد والحداثة السياسية ،فيؤمن به ويقاتل ويقتل من أجلها.

 

قبل أسابيع دارت رحى معركة انتخابية للوصول إلى المقعد رقم واحد  في العالم ، والجلوس خلف المكتب البيضاوي في البيت الأبيض  مقر الحاكم الأمريكي ، وعلى هامش هذه المعركة صدر كتاب هام في لإثنين من كبار اساتذة السياسة وتحقق مؤلفاتهما المبيعات الأعلى فى الولايات المتحدة .. الكتاب الذى يحمل اسم "دعهم يأكلون تويتر" Let Them Eat Twitter يتحدث عن الانقسام الذى كان يعانى منه الحزب الجمهوري بين الحرس القديم الذي يخفض الضرائب للشركات الكبرى ويحمى مصالحها، والقوميين البيض ، لكن مع صعود دونالد ترامب ،رصد الكتاب ، حصول الأثرياء على كل ما يريدونه تقريبًا ، بما في ذلك خفض ضريبي ضخم للشركات الكبرى وأغنياء امريكا .


وفى نفس الوقت استطاع الحزب الجهمورى أحداث ما يمكن وصفه بالتزاوج بين الطبقة الأكثر ثراءا والشركات الضخمه وبين الطبقات الوسطى عبر خطاب الإنقسام والإلهاء  ، واستند المؤلفان جاكوب هاكر وبول بيرسون إلى تحليل محتوى حساب الرئيس ترامب على تويتر –طبعا قبل إغلاقه – مع تجاوزه الخطوط الحمر.


وأيا كانت دقه التحليل الذى يحمله الكتاب ، لكنه يحمل مؤشرا شديد الأهمية على أهميه الكلمه ، حتى لو جاءت عبر فضاء الكترونى أو مرسومه بالحبر على الورق .


الكلمة تنقل الفكرة ، التى تكتسح وتمحو ثقافات شعوب عريقه ، فقط عليك دراسة تناقضات هذا المجتمع او تلك الدولة المستهدفه ، ويمكن فقط نشر تساؤلات يعقبها حوارات موجهه لتضخيم  نقاط الخلاف بين الإنسان الإبيض او الأسود ، او العربى والكردى والفارسى ، او حتى داخل الدين الواحد .. السنى والشيعى ، واجترار تاريخ مكتوب بعده وجهات نظر حول حروب الشام ومكه ، التى افرزت المذهب السنى والشيعى ، وربما تجاهل الجميع تعاليم رسول الله نفسه أو فسرها كل فريق بما يخدم مصالحه ، سالت شلالات الدم فى بلادنا بفعل الكلمة.


المستقبل يحمل إلينا كثير من المخاطر ، فربماء جاء يوما يتخلف فيه أبناء العائلة الواحدة حول الأب الظالم او الأم المغلوب على أمرها ..الواقع يقول أننا تأخرنا كثيرا حتى أصبحنا رد فعل لهجمات الكلام ، الذى يحرق كنار باطن قرص الشمس .


والسؤال كيف نستطيع حماية مجتمعاتنا من الكلام القاتل الذى يثير الخلافات ومعارك الدم ؟ ..هل نجلس وننتظر حملات تخطف الأبصار لنسير بفعلها كقطيع إلى الهاوية .


لا أعرف اذا كانت هناك فى بلادنا مراكز للتفكير ، والبحث فى العلوم الإجتماعية ، أم أن فيروس التجمد الذى ساد مصر لأربعه عقود ، قد أصابها أيضا ..أو فاز بكل الفرص فيها انصاف الموهوبين او اصحاب الحظوة من اقارب الكبار ، فماتت تلك المراكز  سريريا ، ولايتبقى سوى نزع اجهزة التنفس عنها ..وتشيعها إلى مثواها الأخير ، وتستقبل بلادنا وأجيالنا هجمات جديدة لن تتوقف ولا يمكن صدها، بصدور عارية من العلم والتفكير .

 

كل ما تشهده مصر من بناء يدعو  للتفاؤل بمستقبل بلادنا ، لكنه أيضا يلزمنا بالحرص والخوف ، والدفاع عن منجزات بلد لايريد لها الكثيرون سوى أن تعيش على حد الكفاف فى الثروة والعلم .. ولو راجعنا عشرات من حملات الدعاية المضاده التى صنعت فى اروقه أجهزة ومراكز تفكير جماعات مارقه او دول تخشى نهوض مصر وقوتها المستقبلية ، تعكف على كل إنجاز ..هناك من يدرس المشروع ، ويبحث فى تسفيه الجهود الجبارة ، ودفع أفراد الشعب إلى الإنكفاء على الخاص ومصالحه الضيقه .."أنا استفدت إيه؟" .


الحقيقة ان الرئيس السيسي يبدو  أكثر مسئول فى بلادنا مهتم بذلك النوع من الحروب التى يتم تطويرها وتمر بمراحل وأجيال لتصنيعها ..فكثيرا ما حذر فى خطابات علنية من تلك المخاطر ، ولكن لا أحد من مراكز البحث والتفكير قد التقط طرف الخيط ليسابق الزمن إلى انتاج أفكار الدفاع المحلى ، وتحصين المجتمع من الإشتعال الذاتى بفضل قليل من العوامل المساعده على الحريق .

 

مصر ورئيسها وشعبها ، عرضه لهجمات هدأت وتيرتها قليلا ، لكن موجات جديدة منها قادمه ، وعلينا أن نعلم ونتعلم شكل تلك الهجمات ووسائلها التى ستكون بالتأكيد جديدة علينا ، مثلما حدث فى 2011 ..وأقترح على الحكومة أن تشكل خليه أزمة لتطهير وتطوير المناهج فى المدارس والجامعات ، والسير على خطى صناعه العقل القادر على فرز ما يسمع ، وفهم ما هو آت .


وعلينا أن نقدم فى كتب المدراس ومذكرات الجامعات الحقيقة العارية ، لكيفية تشكيل  جماعات الشقاق والتفريق السياسي التى صنعها الغرب فى صراع القوة مع الشرق ، وحسنا فعلت مراكز البحث فى الدول الأجنبية بكشف وثائق تأسيس تلك الجماعات فى مصر وإيران وباكستان ..ومازلت ارى  ضرورة تدريس عده كتب صدرت فى الغرب تفضح عمالة وخيانه تلك الجماعات للدين وللأوطان .


الحقيقة لا أعرف دورا اهم لوزارة التعليم العالى والبحث العلمى ،سوى البدء الفورى ..لإعاده الحياة لمراكز البحث والتفكير، وإنتقاء العناصر التى تتميز بالكفاءة واستبعاد من وصل إلى مقعده عبر آليات الواسطة والمحسوبية .


ولا أفهم دورا للأحزاب السياسية أرقى من أحياء الأفكار عنه من حشد الأصوات ، وكانت قديما بها من الباحثين ومراكز للدراسات ، تتولى تطوير الفكرة وإبتكار وسائل تجديدها .